سهيل منيمنة*
كتب الشيخ عبد الباسط الأنسي في «دليل بيروت» 1909-1910 عن فصل الصيف فيها: أوّله ليلة الثلاثاء الواقع في 3 جمادي الآخرة سنة 1337 و9 حزيران سنة 1325 و22 حزيران سنة 1909. وأيامه 92 و4 ساعات و15 دقيقة. أبراجه: السرطان والأسد والسنبلة.
والبيارتة يستعملون كلمة «شوب» للدلالة على الحرّ، وكذلك في معظم مناطق بلاد الشام. قال صاحبنا الأستاذ عبد الفتاح خطّاب في كتابه «الهادي في الألفاظ العامية»: شَوْبْ: كلمة آرامية وتعني الحرّ والقيظ. وعن شهر آب قال: «كلمة آرامية وأصلها بابليّ بمعنى العَداء. سمّي هكذا لشدّة حرارته لأنه عدوّ الأرض ويحرق ما عليها من خضرة. ومنهم من يشتق الإسم من Abe ومعناها القصب، ذلك لأنهم كانوا في هذا الشهر يقصّونه ويستعملونه في البناء. و«تمّوز» كلمة آرامية أصلها بابلي عن لفظ سومري ويعني «إبن الحياة» وقصد به إله عبده السومريون والأكاديّون، وكان هذا الشهر مكرّساً له، وهو إله يموت ويعود، وموت تمّوز يرمز إلى موت الطبيعة. وحزيران آراميّة ومعناها الحنطة (القمح) لوقوع موسم حصاده في هذا الشهر.
وكتب الدكتور حبيب أفندي درعوني تحت عنوان «تدبير الصحة في بيروت» في مجلة «المشرق» ج4، سنة 1901 ما يلي: «إن حرارة بيروت منتظمة في استوائها شائقة في اعتدالها، والفضل لا ريب لموقع بيروت الطبيعي على ساحل البحر واكتناف الجبال بها. وقد يُستنتج من ذلك لأول وهلة أن هواء بيروت مفيد للأمراض الصدرية نافع لها بما فيه من الاعتدال. وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك لسبب ارتفاع درجة الرطوبة.. ولا يخفى أن الهواء إذا كان مشبعاً رطوبة يعرقل تبخر الرئتين وذلك عكس المرغوب لشفاء أمراضها. وهذه الرطوبة لا شك شديدة، لذلك نرى المصابين بالأمراض الصدرية كالربو والامفيزيا وزكام الشعب المزمن لا يوافقهم هواء بيروت بل يزيد غالباً في حالتهم. أما الأرجاء الواقعة وراء سلسلة لبنان في سهل البقاع والتي ما وراء جبل الشيخ من جهة دمشق الشام فهي في غاية الموافقة لهم.
ومما لحظه أصحاب الآثار الجوية في بيروت أن ارتفاع الحرارة يوافقه هبوب الريح الغربية والغربية الجنوبية التي تغلب عليها في شهور القيظ وخصوصاً شهر تموز فتراها تتصاعد في سلم الارتقاء رويداً رويداً كلما قابلت فصل الحر فتبلغ معظمها في شهر تموز وكلما أقبل فصل البرد هبطت تدريجاً، وأقلّ ما يكون هبوبها وتقلّبها في كانون الثاني. وقد تدوم الحرارة مدة أربعة أو خمسة شهور من حزيران إلى تشرين الأول في ارتفاع مستمر تكون له في شهر آب وَقدة مبرحة وقد تبلغ حمّارتها الدرجة الثلاثين أو الثانية والثلاثين فيكاد لا يطيقها البدن بسبب الرطوبة المرافقة لها»
إعتاد البيارتة منذ زمن أن يمضوا فصل الصيف في المناطق الجبلية هرباً من الحر والرطوبة. ولكن هذه العادة كانت قديماً محصورة بالأغنياء وبعض متوسطي الحال وكانت أغلب وجهاتهم بلدات عاليه والمريجات وبوارج، ومنهم من كان ينتقل إلى الزبداني في سورية بواسطة سكة الحديد التي كان لها محطات رئيسية في عاليه وبحمدون والمريجات. أما الباقين منهم فكانت لياليهم على سطوح الأبنية تحت العرازيل، أو العرازيل التي كانت تنصب في منطقة الأوزاعي لفترات تتراوح بين أيام قليلة أو طيلة فصل الصيف. ولم يكن أمام محدودي الدخل إلّا شواطئ بيروت الرائعة النقيّة في ذلك الوقت خاصة الروشة ومية الدالية التي تعلّم فيها معظم أبناء بيروت السباحة، وكذلك شواطئ عين المريسة وميناء الحصن التي أقيم فيها عدد من الحمامات لعل أشهرها كان حمام الجمل. وليس مستغرباً أن يتغنّى البيارتة ببحرهم الجميل. قال أمين اللادقي في ديوانه «بيروت تتكلم»:
يا جارة البحر إن البحر ولهان
يحنو عليكِ كما يختال نشوان
يأتي إليكِ ولا يكفيه شوران
قد ضمك الموج إنّ الموج عطشان
للبرّ لحنٌ وللأمواج ألحانُ
وكان البيارتة قديماً يهربون من حر تموز (يوليو) ورطوبة أجوائه الخانقة في باطن المدينة إلى مصايفهم في رأس بيروت والمنارة. أما سكان المصيطبة والأشرفية فكانوا يُعتبرون مصيّفين لوقوع هذه المحلات في مناطق عالية نسبياً خارج المدينة! وقد ذكر المؤرخ عبد اللطيف فاخوري أبيات من الشعر في كتابه الجامع «البيارتة» كان أهل المدينة يرددونها سنة 1888 في تموز وحرّه، هي:
قالوا لتموز لقد أهلكتنا
فأجابهم إني انتقمت بما لديّ
قالوا وهل لك عندنا ثأر يفي
بحرارة تكوى بها الأجسام كيّ
فأجابهم لا تعجلوا في حكمكم
قصدي بألا أكذبكم بشيء
هي زلقة مصداق أمثال لكم
فمتى أتى آب ترحمتم عليّ
وتابع قائلاً: «فالمدينة يحدّها سور تقفل أبوابه مساءً، والبيت مقفل على الخارج لا ينبئ مظهره عن داخله. والعائلة تتوزع الغرف وتشترك في المنافع العامة له بعيداً عن أعين الغرباء، يتحرك أفرادها ويتنقلون ويمشون فيه بكل راحة وطمأنينة. إذا أمطرت جلسوا تحت القسم المسقوف من أرض الدار – الفسحة السماوية – وإذا اعتدل الحر جلسوا حول البركة في وسط الفسحة المذكورة. فإذا اشتد الحر صيفاً صعدوا إلى العلّيات وسهروا وتمتعوا بالهواء الغربي الذي وصفوه بالحنون وغنوا له: «يا رب يدوّر غربي تيرجع حبيب قلبي».
وعن العادات والتقاليد البيروتية في فصل الصيف، استقطع جزءاً من مقالة أرسلها لي الإعلامي والباحث في التراث الشعبي الأستاذ زياد سامي عيتاني ونشرتها على شبكة جمعية تراثنا بيروت ما يلي: كان من عادة أهالي بيروت قديماً يوم كانت محصّنة بسورها وأبوابها، أن يقصدوا في فصل الصيف المناطق المتاخمة لها في «ظاهر» بيروت، أي خارج السور، لا سيما المرتفعة منها أو المجاورة للبحر، وذلك هرباً من حرّها، فكانوا يبنون «العرازيل» للإقامة فيها، علّهم يحصلون على طراوة الجو والهواء العليل المنعش الذي يكسر حرارة شمسها. ومن المناطق البحرية التي كانت مقصد «البيارتة» عين المريسة وشوران والأوزاعي، إضافة إلى الطرف الشرقي من المرفأ، أي مكان جسر شارل حلو حالياً، حيث كانت مياه البحر تصلها، والتي كانت تتجه إليها العائلات البيروتية لـ«الصيفية»، أي أنها كانت بمثابة مصيفاً لهم، فسمّيت بمحلة «الصيفي»، وبقيت هذه التسمية وأخذ ذاك الحي تسميته الإدارية، منذ وقتها، وما يزال حتى يومنا هذا.
يذكر أنه في أواخر القرن التاسع عشر تطرق المؤرخ والأديب الهندي شبلي النعماني إلى طقس بيروت من الناحية الصحيّة في كتابه «كتاب السفر الى الأناضول وسوريا ومصر» بما يلي: «يسود اعتقاد بين مسؤولي الدولة (العثمانية) ان طقس بيروت مفيد للأمراض. ولذلك يأتي العديد من الموظفين والمديرين إلى بيروت. على سبيل المثال, في 27 كانون الأول 1890, أُرسل محافظ دير الزور, محمد صلاح الدين أفندي, إلى بيروت لمدة شهرين لتلقّي العلاج من مرض ألمّ به. وممن جاء أيضا الى بيروت, محافظ بازارجيك محمد أفندي, ضابط شرطة دمشق حسين قنديلي, محافظ منطقة باياس إلفان بك, محافظ منطقة بني صعب نجيب نادر أفندي, ومحافظ إشارة محمود صلاح الدين بك, ومدير السجلات في طرابزون محمد أمين أفندي. هؤلاء عدد قليل من الضباط الذين اُرسلوا إلى بيروت للعلاج, أما في وثائق الأرشيف, فيُلاحظ أن عددا أكبرا من المسؤولين من جميع أنحاء الإمبراطورية اُرسلوا الى هنا للعلاج أو تغيير الهواء».
والصيف في بيروت هو فصل المهرجانات والمناسبات السياحية بامتياز. فرغم استئثار بلدات الإصطياف الجبلية بإقامة قسم كبير من البيارتة فيها، إلّا أن بيروت كان ولا يزال لها النصيب الأكبر من المناسبات والمهرجانات والسياحة الصيفية بشكل عام.
ومن التراث الفني التشكيلي لصيف بيروت لوحات زيتية جميلة للتزلج على الماء رسمها صديقنا الأستاذ محمود شهاب أطال الله بعمره، رسمها بعد حضوره المهرجان الدولي للتزلج على الماء الذي شهدته بيروت سنة 1952، وكذلك لوحات لمسابح منطقة الجناح مثل السان سيمون والسان ميشال والكوت دو زور والريفييرا والأكابولكو وغيرها، ولوحة رائعة للسمرلاند أيام العزّ والحمام العسكريّ عام 1947 (الصورة المرفقة).
أما عن الأمثال البيروتية في الحرّ والصيف فهي تعتبر قليلة جداً مقارنة بما تمثّلوا به في البرد والشتاء. أذكر منها:
– بتموز بتغلي المي بالكوز.
– آب اللّهاب.
– لو كان للصيف أم بكيت عليه.
– أيلول طرفه بالشتي مبلول.
– بين تشرين وتشرين صيف تاني.
في صيفها وشتائها، في ربيعها وخريفها، في سنا بريقها ودخان حريقها، في تخطّيها المدى وصبرها على الأذى، لا يسعني إلّا أن أردد ما كتبه صديقي المؤرخ الدكتور عصام شبارو:
وبيروت هي رمز الوطن، ترفض دوماً أن تتقوقع في تجمعات طائفية ومذهبية ضيقة.. وبيروت هذه.. لم تكن يوماً صليبية مغروسة، ولا عثمانية محروسة، ولا فرنسية حنونة، ولن تكون يوماً إسرائيلية مدسوسة، أو أميركية مدروسة، لأنها كانت وستبقى دائماً وأبداً ضمن محيطها العربي الكبير عروسة، مكللة بتاج الوحدة الوطنية المرصّع بقرع أجراس الكنائس وبصوت أعلى المآذن: الله أكبر.
________
* مؤسس ورئيس جمعية تراثنا بيروت