سهيل منيمنة
في منتصف شهر حزيران من العام 1972، عُقد مؤتمر الأمم المتّحدة للبيئة في العاصمة السّويديّة ستوكهولم بحضور 1200 متخصّص يمثّلون 114 دولة، وانبثق منه وكالة متخصّصة في شؤون البيئة، أطلق عليها اسم برنامج الأمم المتّحدة للبيئة (UNEP). وقد حدّد هذا المؤتمر معنى البيئة اصطلاحًا بأنّها: “رصيد الموارد الماديّة والاجتماعيّة المتاحة في وقتٍ ما، وفي مكانٍ ما لإشباع حاجات الإنسان وتطلّعاته وكلّ ما يحيط به”.
بالطّبع هناك محاولات علميّة عديدة للتّعريف بمفهوم البيئة، وكلّها تصبّ في إطارٍ مفادُه أنّها مجموعة العناصر الطّبيعيّة والعناصر الّتي تُمارَس فيها الحياة الإنسانيّة. وبحسب الدّراسات الّتي قام بها جهاز “إنكلترا التّاريخيّة” التّابع لوزارة الثّقافة البريطانيّة فإنّ التّنمية المستدامة تؤدّي الدّور المحوريّ في المجتمع كونها نواة المبادئ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة، وأنّ التّراث الثّقافيّ يجمع معها، وقيمته الاقتصاديّة الإجماليّة هي أكبر من مجموع أجزائه.
حدّدت الأمم المتّحدة “التّنمية المستدامة” على أنّها “التّنمية الاقتصاديّة المسؤولة اجتماعيًّا الّتي تحمي قاعدة الموارد لصالح الأجيال القادمة”. ولكن يجب الانتباه إلى أنّ التّعريف الكلاسيكيّ للتّنمية المستدامة المتعلّقة بالبيئة كثيرًا ما يتجاهل أهمّيّة الثّقافة في تنمية المجتمعات. ومنذ أن نُشر تقرير برونتلاند Brundtland report في العام 1987 وتقرير اللّجنة العالميّة للبيئة والتّنمية في العام 1989 كان من المقبول اعتماد قيام التّنمية المستدامة على الرّكائز الثّلاث المذكورة آنفًا (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة) بخاصّةٍ بعد تعزيز إعلان “ريو” بشأن البيئة والتّنمية في العام 1992، وكذلك ضمن إعلان جوهانسبورغ المخصّص للتّنمية المستدامة في العام 2002. وما يهمّنا في هذا البحث هو علاقة البيئة بالتّراث في لبنان. وقد حدّد قانون حماية البيئة اللّبنانيّ رقم 444 الصّادر بتاريخ 29 تمّوز 2002 في المادّة الثّانية من الباب الأوّل البيئة بأنّها “المحيط الطّبيعيّ والاجتماعيّ الّذي تعيش فيه الكائنات الحيّة كافّة، ونظم التّفاعل داخل المحيط وداخل الكائنات وبين المحيط والكائنات.” ولفهم العلاقة بين التّراث والبيئة لا بدّ من تفسيرِ مفهومِ كلٍّ منها، بخاصّة فيما يتعلّق بالتّراث وضرورة المحافظة عليه.
مفهوم التّراث ومكانته
للتّراث معانٍ مختلفة تتفرّع منها تعريفات مرفقة به. ويمكن تعريفه على أنّه “أيّ شيء يرغب شخص ما في الحفاظ عليه أو جمعه”. ويمكن وصف هذا المعنى كشيء يريد المرء الاحتفاظ به أو الحفاظ عليه إلى حدٍّ كبير. ويمكن تحديد خمسة جوانب موضوعيّة للتّراث، وهي:
1. البيئة الطّبيعيّة.
2. مرادف لأيّ أثر لبقاء الماضي الماديّ.
3. فكرة الذّكريات الفرديّة والجماعيّة من منظور الجوانب غير الماديّة للماضي عندما يُنظر إليها من الحاضر.
4. كلّ إنتاجيّة ثقافيّة وفنيّة متراكمة.
5. نشاط تجاريّ رئيسيّ، مثل صناعة التّراث.
هذا التّوسّع في مفهوم التّراث يتّضح أيضًا إذا قام المرء بتحليل الوثائق الدّوليّة الرّئيسيّة الموجودة الّتي أنتجتها منظّمات عالميّة مثل الإيكوموس واليونسكو لحماية التّراث والحفاظ عليه، حيث تتطرّق إلى توسيع نطاق التّراث من المعالم والمباني التّاريخيّة إلى مجموعاتٍ من المباني والمراكز الحضريّة والرّيفيّة التّاريخيّة والحدائق التّاريخيّة والتّراث غير الماديّ، بما في ذلك البيئات والعوامل الاجتماعيّة ونسيجها.
على الرّغم من أنّ معرفة جميع جوانب التّراث مفيدة لفهم طابعه المعقّد، إلّا أنّه عادةً لا يساعد في الحفاظ على مواقع التّراث وإدارتها يوميًّا. وهكذا يتمّ تطوير نماذج التّراث، للمساعدة في تحسين سياسات الحفظ والإدارة المناسبة، فضلًا عن أعمال التّرويج وزيادة الوعي. وفي الوقت نفسه، ثبت أنّ مهمّة تصنيف التّراث هذه صعبة للغاية لأنّ مفهوم التّراث هو مفهوم متعدّد الأبعاد، حيث يمكن تصوّر التّراث بطرق مختلفة داخل ثقافة واحدة وعبر الثّقافات، بالإضافة إلى أشكال رسميّة وغير رسميّة.
بين التراث والحداثة (عدسة فادي بدران ـ جمعية تراثنا بيروت)
فئات التّراث
في الوقت الحاضر، هناك فئتان رئيسيّتان من التّراث تُهيمنان على المستوى الدّوليّ: الماديّ وغير الماديّ، ويمكن تصنيف كلٍّ منهما بدرجة أكبر. وهكذا، على سبيل المثال، يتمّ تصنيف التّراث الماديّ في اتّفاقيّة اليونسكو للعام 1972 بشأن حماية التّراث الثّقافيّ والطّبيعيّ العالميّ إلى ثقافيّ وطبيعيّ، ولكلّ فئة المزيد من التّقسيمات الفرعيّة. في الوقت نفسه، لم يعد يُنظر إلى فئات التّراث الثّقافيّ والطّبيعيّ على أنّها منفصلة تمامًا، وتمّ دمجها من خلال فئة “المناظر الطّبيعيّة الثقافيّة” والّتي بدورها تشتمل أيضًا على عنصر غير ملموس. ومن أجل دمج العناصر غير الملموسة، تمّ تعديل نطاق اتّفاقيّة التّراث العالميّ لعام 1972 وتوسيعه من خلال المبادئ التّوجيهيّة التّشغيليّة لتشمل نواحي مختلفة مثل المسارات الثّقافيّة، والمناظر الطّبيعيّة الثّقافيّة، والمواقع التّرابطيّة والمواقع التّذكاريّة، وكلّها تعترف بالمكوّنات غير الماديّة جزءًا من أهمّيّة الموقع.
لكن بالطّبع لم يكن كافيًا توسيع نطاق اتّفاقيّة العام 1972 لتشمل عناصر غير ملموسة، فتمّ تطوير ميثاق دوليّ مختلف لضمان الحفاظ السّليم على التّراث غير الماديّ. ثمّ تمّ بعد ذلك اعتماد اتّفاقيّة اليونسكو لصون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ في تشرين الأوّل/أكتوبر 2003 ، ودخلت حيّز التّنفيذ في نيسان/أبريل 2006. وتُعرِّف الاتّفاقيّة التّراثَ الثّقافيّ غير الماديّ بأنّه الممارسات والتّمثيلات وأشكال التّعبير والمعرفة والمهارات – فضلًا عن الأدوات والأشياء والمصنوعات اليدويّة والمساحات الثّقافيّة المرتبطة بها – الّتي تعترف بها المجتمعات والجماعات، وفي بعض الحالات، الأفراد جزءًا من تراثهم الثّقافيّ (اليونسكو 2003، المادّة 2).
مراحل تكوين الهويّة التّراثيّة
هناك مراحل مميّزة يجب أن يمرّ بها عنصرٌ ما حتّى يطلق عليه التّراث، مثل تكوين التّراث والاعتراف به وتخصيصه وتفسيره وفقدانه. وهناك أسباب مختلفة تجعل العناصر تراثًا، ولكن ربّما يكون أكثرها شيوعًا هو التّقادم، والبقاء، وندرة القيمة، والإبداع الفنّيّ، والارتباط. ومع مرور الوقت والتّقدّم التّكنولوجيّ، تصبح بعض الأشياء قديمة وغير مستخدمة، ولكنّها عند بعضهم لا تزال تمثّل قيمة خاصّة، كبابور الكاز وماكينة الخياطة القديمة ومطحنة البنّ وغيرها من الأشياء اليوميّة العالقة بذاكرة الطّفولة بخاصّة. ولا تزال هناك عناصر أخرى قيد الاستخدام ولكنّ عمرها المحض وندرتها يجعلانها تراثًا (مثل الأماكن الدّينيّة القديمة كمساجد العمري الكبير والأمير عسّاف والأمير منذر والكنائس القديمة الّتي لم تزل صامدة في وسط بيروت)؛ ويمكن إدراج المخطوطات القديمة أيضًا في هذا التّصنيف. أيضًا، يُعتبر الإبداع الفنّيّ البشريّ أحد طرُق الإنتاج المتعمّد للتّراث، مثل جمع الأعمال الفنّيّة والموسيقى والأدب والحفاظ عليها. وتصبح أشياء أخرى تراثًا بسبب ارتباطها بالنّاس أو الأحداث، مثل: مبنى بركات في محلّة السّوديكو وبيت الاستقلال في القنطاري ومتحف سرسق في الرّميل ومدرسة المعلّم بطرس البستاني في زقاق البلاط، والأمثلة كثيرة.
تعرّف واعتراف
يمكن أن نلاحظ أنّ الأكثر أهمّيّة في عمليّة تكوين التّراث هو التّعرّف عليه، وبالتّالي الاعتراف به، حيث تصبح العناصر تراثًا فحسب إذا تمّ الاعتراف بها على هذا النّحو. فليس كلُّ قديم أو نادر تراثًا . ويتمّ التّعرّف على الأشياء على أنّها تراث لأسباب مختلفة، مثل البحث الشّامل عن عنصر معيّن، والّذي يعدّد الأسباب المقنعة الّتي تجعل العنصر له أهمّيّة ويستحقّ الحفاظ عليه. ومع ذلك، وفي الحياة اليوميّة أميل إلى أن التّراث هو بناء العقل الّذي لا يمكن دائمًا حسابه من خلال دراسة الآثار أو الحفظ. لن يخضع معظم التّراث، الّذي يعني أكثر من غيره للأفراد، للتّسجيل أو الحفظ وبالتّالي الاعتراف به باعتباره تراثًا . وسبب آخر للاعتراف بالتّراث قد يكون تحوّلًا في الهيكل السياسيّ أو الإداريّ، عندما تظهر العناصر المنسيّة مرّة أخرى، وهو في الغالب عامل سياسيّ لتبرير نظام قائم أو دعمه. فكثيرًا ما يكون تحديد التّراث والاعتراف به هو عمل سياسيّ لأنّ “القرار بشأن ما يُعتبر جديرًا بالحماية والحفظ يتمّ اتّخاذه عمومًا من سلطات الدّولة على المستوى الوطنيّ والمنظّمات الحكوميّة الدّوليّة – الّتي تضمّ الدّول الأعضاء – على المستوى الدّوليّ”.
العلاقة بين العوامل البيئيّة والثّقافيّة التّراثيّة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا العنوان معقّد إلى حدٍّ ما، ويغطّي مجموعة واسعة من الموضوعات والقضايا، ولكنّ ازدياد الوعي بأهمّيّته، بخاصّة مع تزايد تأثير التّغيّر المناخيّ السّلبيّ على المباني التّاريخيّة في العقود الأخيرة، جعل الحاجة ماسّة للتّدخّل والتّوعية من خلال مؤتمرات ودعوات ودراسات للمناقشة وإيجاد حلول، منها على سبيل المثال مؤتمر مناخ. ثقافة. سلام الافتراضيّ الّذي عقده المركز الدّوليّ لدراسة الحفاظ على الممتلكات الثقافيّة وترميمهاICCROM مطلع العام الماضي، ومؤتمرات مماثلة أقيمت، أو يتمّ الإعلان عنها لـلمجلس الدّوليّ للآثار والمواقع ICOMOS، وغيرها. وفي المنتدى التّاريخيّ البيئيّ الّذي عقد في شهر آب/أغسطس من العام 2020 تحت عنوان Heritage Counts 2020، قامت مؤسّسة إنجلترا التّاريخيّة Historic Englandبتقديم دراسة مهمّة تناولت فيها جوانب المجتمع والبيئة والاقتصاد والاستدامة. تمّت دراسة أسباب التّأثيرات البيئيّة والبشريّة وآليّاتها وأضرارها على مواقع التّراث والمباني والأشياء بشكل تدريجيّ، كما تمّ تعزيز التّعاون الدّوليّ في أبحاث التّراث. ودامت هذه أهدافًا شاملة للبرامج المتعاقبة الّتي تمّ تنفيذها من خلال سياسة البحث للمفوّضيّة الأوروبيّة مدّة 20 عامًا.
اعتمادًا على المنحى العلميّ الّذي وفّرته هذه الدّراسات والتّوصيات، يمكننا أن نلقي نظرة أعمق على واقع العلاقة بين العوامل البيئيّة والثقافيّة التّراثيّة في لبنان من خلال ستّة أقسام رئيسيّة كالآتي:
1. التّراث الثّقافيّ والبيئة
فيما يتعلّق بالتّراث الثّقافيّ والبيئة فقد لاحظنا في جمعيّة تراثنا بيروت، وفي أثناء التّحضير للمناسبات المتعلّقة بالتّراث الطّبيعيّ أنّ معظم اللّبنانيّين شديدو الارتباط ببيئاتهم الطّبيعيّة على كامل مساحة الوطن، ممّا يؤكّد أنّ هذه البيئات متداخلة ومتماسكة بقوّة مع تراثهم الثّقافيّ وأنّ الموروث الثّقافيّ هو أساسيّ وتكامليّ مع القيمة البيئيّة.
في لبنان اليوم 18 محميّة طبيعيّة تغطّي 2.7% من مساحته، ثلاثة منها تعتبر محميّات نموذجيّة هي محميّة أرز الشّوف، ومحميّة حرش إهدن، ومحميّة جزر النّخيل قبالة شاطئ مدينة طرابلس. وتُعتبر محميّة أرز الشّوف هي المحميّة الحيويّة الوحيدة فيه. يُذكر أنّ خمسة من هذه المحميّات تمّ ترشيحها مواقعَ تراثٍ طبيعيّ لتُدرَج على لائحة التّراث العالميّ، وهي: محميّة جزر النّخيل الطّبيعيّة، ومحميّة أرز الشّوف الطّبيعيّة، ومحميّة حرج إهدن الطّبيعيّة، ومحميّة شاطئ صور الطّبيعيّة، ومحميّة مستنقع عمّيق الطّبيعيّة.
2. الموارد الطّبيعيّة وبيئتنا التّاريخيّة
تتشكّل البيئة الّتي نعيش فيها كبشر بفعل الطّبيعة والتّفاعل الثّقافيّ الحضاريّ. فالبيئة التّاريخيّة تشمل جميع المباني الّتي شيّدها الإنسان والمناظر الطّبيعيّة الّتي زرعها وحافظ عليها عبر العصور المختلفة. وتتجلّى قيمتها القصوى في أنّها تمثّل شاهدًا ملموسًا على كيفيّة عيش الأجيال السّابقة، أو أنّها تشكّل أماكن تاريخيّة، أو تتمتّع بأهمّيّة دينيّة أو ثقافيّة.
في تقريرها المنشور في شهر كانون الأوّل/ديسمبر من العام 2005، أولت الوكالة السّويديّة للتّنمية الدّوليّة سيدا اهتمامًا ملحوظًا بالبيئة التّاريخيّة، يتجاوز فكرة الحفظ الخالص، ويركّز على جوانب إعادة الاستخدام من الموارد المحليّة، وقيمة البيئة التّاريخيّة في التّخطيط والتّطوير. ويمكن أن يقاوم ذلك تمكينَ المعنيّين بالتّأثير في التّخطيط والتّنفيذ. يجب أن تكون هناك إمكانيّات جيّدة لاستخدام الموارد المحليّة عند عمليّة الحفظ وإعادة الإعمار بأكملها، والّتي بدورها يمكن أن تخلق فرص عمل للمجموعات الفقيرة. يجب أن يعزّز التّعاون الإنمائيّ قدرة الدّولة الشّريكة على حماية مواردها التّراثيّة واستخدامها، من خلال زيادة المهارات والمساعدة في جعل المؤسّسات واللّوائح تعمل بشكل أكثر كفاءة. يجب تصميم برامج الإغاثة بعد الكوارث الطّبيعيّة أو الّتي من صنع الإنسان، من أجل حماية أصول البيئة التّاريخيّة والحفاظ عليها وضمان استمرار تطويرها.
3. البيئة التّاريخيّة والتّنوّع البيولوجيّ
بعد ظهر الأربعاء 26 نيسان الفائت، أطلق وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال الممرَّ الحيويّ البيئيّ الاجتماعيّ بين محميّتَي جبل حرمون وأرز الشّوف، بالتّعاون مع جمعيّات التّحريج في لبنان. وهي خطوة تساعد في حماية التّنوّع البيولوجيّ والتّصدّي للتّغيير المناخيّ وتأمين موائل آمنة للطّيور والحيوانات البرّيّة وتحسين نوعيّة التّربة وزيادة مخزون المياه الجوفيّة. (الوكالة الوطنيّة للإعلام، الخميس 27 نيسان 2023).
ويُعدُّ التّنوّع الثّقافيّ والطّبيعيّ من العناصر المميّزة للمجتمعات. فمن خلال تعزيز مفهوم الثّقافة والطّبيعة والتّراث يمكن الهيئات والمؤسّسات المعنيّة تقوية المجتمعات وحماية البيئة، وبالتّالي تعزيز حقوق الإنسان، بما في ذلك الحقّ في الحياة والصّحة وحرّيّة التّعبير والإبداع.
تبرز أهمّيّة البيئة التّاريخيّة والتّنوّع البيولوجيّ عالميًّا من خلال مبادرات عدّة، أهمّها مؤتمر الأمم المتّحدة المعنيّ بالبيئة والتّنمية United Nations Conference on Environment and Development (UNCED)، أو ما يسمّى بـقمّة الأرض الّتي عُقدت في ريو دي جانيرو في البرازيل في 5 حزيران 1992. وقّع لبنان على اتّفاقيّة التّنوّع البيولوجيّ، وتمّ التّصديق عليها من الحكومة اللّبنانيّة في آب من العام 1994 بموجب القانون رقم 360.
دخلت الاتّفاقيّة حيّز التّنفيذ في 29 ديسمبر 1993 بثلاثة أهداف رئيسيّة، هي: حفظ التّنوّع البيولوجيّ، وضمان الاستخدام المستدام للتّنوّع البيولوجيّ ومكوّناته، وضمان التّقاسم العادل والمنصف للمنافع النّاشئة عن استخدام مواردها الأصيلة.
تقدّم الاتّفاقيّة للحكومات وصنّاع القرار إرشاداتٍ بشأن كيفيّة التّعامل مع التّهديدات الّتي يتعرّض لها التّنوّع البيولوجيّ، بالإضافة إلى المبادئ التّوجيهيّة لتحديد الأهداف والسّياسات والالتزامات العامّة. يتعيّن على الأطراف تطوير استراتيجيّات وخطط عمل وطنيّة للتّنوّع البيولوجيّ national biodiversity strategies and action plans (NBSAPs) ، وإدماجها في الخطط الوطنيّة الأوسع نطاقًا للبيئة والتّنمية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأنشطة المتعلّقة بالاتّفاقيّة الّتي تقوم بها البلدان النّامية مؤهّلة للحصول على الدّعم من الآليّة الماليّة للاتّفاقيّة المعروفة باسم مرفق البيئة العالميّة Global Environment Facility.
وفي الفترة بين العامين 1995 و2016 تمّ وضع 19 موقعًا ذات قيمة طبيعيّة في لبنان، بحماية ورعاية وزارة البيئة في مناطق كسروان (محيط جسر فقرا الطّبيعيّ ونهر الكلب) وبشرّي (وادي قاديشا) والشّوف (نهر الدّامور ومصبّه وغابات وينابيع أنحاء متعدّدة من القضاء) وبيروت – جبل لبنان (نهر بيروت من المنابع إلى المصبّ)، والبترون (نهر الجوز إلى المصبّ) وصيدا (نهر الأوّلي) وعكّار (نهر عكّار)، ولبنان الشّماليّ (جبل المكمل).
4. التّراث العمرانيّ والبيئة
تتداخل الحماية الدّوليّة للتّراث الثّقافيّ الماديّ مع حماية البيئة، بدءًا من الحفاظ على التّنوّع البيولوجيّ إلى منع التّصحّر وغيرها من العوامل البيئيّة. يمكن القول إنّ اتّفاقيّة التّراث العالميّ هي قانون بالتّنظيم البيئيّ الدّوليّ فيما يتعلّق بالتّكيّف المحليّ وتدابير التّخفيف الّتي تحمي المواقع ذات القيمة العالميّة البارزة. وممّا لا شكّ فيه أنّ الموروث العمرانيّ اللّبنانيّ يتمتّع بخصائص تجعل الحاجة ماسّة وضروريّة للمحافظة عليه، لتنوّعه الّذي يمتدّ عبر مراحل تاريخيّة متعدّدة لكلٍّ منها طابعها المعماريّ الخاصّ. وقد أثبتت التّجربة أنّها المباني المثاليّة لمشاريع ومؤسّسات خاصّة أو حكوميّة أو دينيّة طابعُها الاستدامة، كمباني السّرايات في بيروت وسائر المحافظات والأقضية، والمباني الثّقافيّة والتّربويّة كمبنى الصّنائع ومباني الجامعة الأمريكيّة في بيروت على سبيل المثال. والمعماريّون المتخصّصون يعلمون جيّدًا كم أنّ هذه المباني تُعتبر صديقة للبيئة بعكس معظم المباني الحديثة.
ولا بدّ من الإشارة إلى تأثير “التّلوّث الحمضيّ” في التّراث، وهي مشكلة لم يبدأ الاهتمام بها عالميًّا إلّا منذ العام 1967. هذا النّوع من التّلوّث الخطير الّذي تسبّبه الأمطار الحامضيّة يؤدّي إلى تآكل المنشآت الحجريّة والأبنية الأثريّة القديمة لتفاعل حمض الكبريتيك في تلك الأمطار مع مركّبات الكالسيوم في الحجارة، حيث يتكوّن الجصّ الّذي يتشقّق ويتساقط، ناهيك عن تفاعل حمض الآزوت (النّيتريك) مع كثير من المعادن. وتشير بعض بيانات برنامج الأمم المتّحدة للبيئةUNEP إلى أنّ محطّات الطّاقة الحراريّة في دول حوض المتوسّط تنفث من مشتقّات الكبريت في الجوّ ما يقدّر بنحو خمسة ملايين طنّ، وأنّ معدّل انبعاث مشتقّات النّيتروجين النّاتجة عن أنشطة النّقل تصل إلى نحو 2.5 مليون طنّ، وأنّ هذا الكميّات في تزايد مستمرّ.
5. البيئة التّاريخيّة والاستدامة
تُعرَّف الاستدامة بأنّها “القدرة على تلبية احتياجات الجيل الحاليّ من دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم”. وإلى الآن فإنّ التّنمية المستدامة للمدينة ليس لها إطار عمل محدّد، يضيّق الفجوة بين النّظريّة والتّطبيق. وإدراكًا لأدوارهم الرّئيسيّة، بدأ مخطّطو المدن في إعادة تشكيل وإعادة تصميم بيئاتنا المبنيّة والطّبيعيّة استجابةً للتّحدّي.
خلاصة
يتعرّض التّراث الطّبيعيّ والثّقافيّ لمخاطر مختلفة ناتجة عن الدّيناميكيّات البيئيّة والدّيناميكيّة الّتي يسبّبها الإنسان. تتطلّب سياساتُ الحفظ المستدام وإستراتيجيّاتُه، لمثل هذه المواقع، نهجًا وخبرات وتقنيّات متعدّدة التّخصّصات، وذلك بالإضاءة على تكامل علوم الأرض مع علم الآثار والحفاظ عليها للاستراتيجيّات والإدارة المستدامة طويلة الأجل لتحليل المشكلات والحفاظ على الآثار والموادّ الطّبيعيّة الموجودة في مواقع التّراث الطّبيعيّ والجغرافيّ. إنّ ما تعرّض له لبنان، وبخاصّة العاصمة، من عوامل تهديد بيئيّة أو نتيجة ممارسات سلطةٍ فاسدة تحكّمت بمقدّرات الوطن منذ عقود، يستدعي توحيد الجهود للحفاظ على ما تبقّى من موروثنا المعنويّ والمادّيّ والطّبيعيّ. ولا يتمّ ذلك برأيي إلّا من خلال الوعي بالمخاطر، وبناء القدرات بخطوات أهمّها: توثيق خرائط للأخطار الطّبيعيّة أو الّتي من صنع الإنسان وجردها ورسمها، واستعمال أدوات نظُم المعلومات الجغرافيّة ونهجها، وتطوير منهجيّات تحليل المخاطر والتّخفيف من حدّتها المُطْبقة على مواقع التّراث الجغرافيّ، تلحقها تقنيّات المراقبة لتحليل عمليّات التّدهور ومراقبتها.
* الأستاذ سهيل منيمنة: صيدليّ منذ العام 1980. مؤسّس ورئيس جمعية “تراثنا بيروت” (2020)، بعلم وخبر رقم 707 بغايات تهدف إلى حماية التّراث بجميع أنواعه الماديّة والمعنويّة. وهو مؤسّس تجمّع “تراث بيروت” (2016)، ويضمّ أكثر من أربعين شخصيّة أكاديميّة. وهو مستشار المنتدى الرّقميّ اللّبنانيّ لشؤون التّراث.
ثبت المصادر والمراجع
• نسيب حطيط، “أسباب التّلف والدّمار في المصادر التّراثيّة”، مجلّة مرايا التّراث، العدد الأوّل خريف 2014؛ مركز التّراث اللّبنانيّ في الجامعة اللّبنانيّة الأمريكيّة.
• زكريّا الغول، تطوّر الحياة الاجتماعيّة والصّحيّة في مدينة بيروت (1887-1918). رسالة ماجستير 2018-2019. الجامعة اللّبنانيّة.
• سهيل منيمنة، “لماذا نحافظ على التّراث وكيف نفهمه”، جريدة اللّواء البيروتيّة، 9 حزيران 2022.
• Report of the World Commission on Environment and Development, Our Common Future, Oxford University Press. 1987.
• Guidelines for Sida’s Development Cooperation; Caring for the Historic Environment, Stockholm, December 2005.
• Lebanon Biodiversity, National Clearing-House Mechanism Website.
• The 5th National Report (5NR) To the Convention on Biological Diversity (CBD).
• Heritage and the Environment, Heritage Counts, Historic England on behalf of the Historic Environment Forum. August 2020.
• Iryna Shalaginova, Understanding Heritage, Brandenburg University of Technology, Cottbus- Germany. April 2020.
Véronique Guèvremont, Revue Ethnologies, Patrimoine culturel immatériel 176-161; Vol. 36. Université Laval, France.
هذه المقالة نشرث في مجلة دار المشرق الرقمية بتاريخ 15/6/2023 على هذا الرابط: